إن أجلَّ علم صرفت فيه الهمم، علم الكتاب المنزل، إذ هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيـ م حميد فيه الهدى والشفاء، والرحمة والبـ يان.
والموعظة الحسنة والتبيان، فلو أنفقت فيه الأعمار ما أدركت كل غوره، ولو بذلت الجهود كلها مـ ا أنـ ضـبـ ت مـن معينه شيئاً يذكر، ومن هنا اجتمعت كلمة علماء الأمة على العناية بتفسيره، وبيانه ودراسته.
واستدرار كـنـــوزه، والـ نهل من معينه العذب النمير، ولأجل انكبابهم على دراسته، تنوعت طرائقهم فـ ي عـ رض علومه، واختلفت مشاريعهم في إيضاح مكنوناته، وكان القدح المعلى لعلم التفسير مـ ن ذلك كله، ولهم في تناول هذا العلم والكتابة فيه أربعة أساليب:
أولاً: التفسير التحليلي:
يتولى فيه المفسرون بيان معنى الألفاظ في الآية، وبلاغة التركيب والنظم، وأسباب النزول، واختلاف المفسرين في الآية، ويذكر حكم الآية وأحكامها.
وقد يزيد بتفصيل أقوال العلماء في مسألة فقهية أو نحوية أو بلاغية، ويهتم بذكر الروابط بين الآيـ ات والمـ نـ اســ بـ ات بين الـ ســور ونـحــو ذلك.
وهذا اللون من التفسير هو أسبق أنواع التفسير وعليه تعتمد بقيتها، ويتفاوت فيه المـ فـ سـ رون إطناباً وإيجازاً، ويتباينون فيه من حيث المنهج، فمنهم من يهتم بالفقهيات، ومنهـ م من يهتم بالبلاغيات، ومنهم من يطنب في القصص وأخبار التاريخ، ومنهم من يستطرد فـ ي سرد أقوال السلف.
ومنهم من يعتني بالآيات الكـ ونـ يـ ة أو الصور الفنية أو المقاطع الوعـ ظـ يـ ة أو بيان الأدلة العقدية. وبذلك يكون هذا اللون من التفسير هو الغالب على تواليف العلماء وأكثر كتب التفسير على هذا النمط.
ثانياً: التفسير الإجمالي:
وهو بيان الآيات القرآنـ يــ ة بالتعرض لمعانيها إجمالاً مع بيان غريب الألفاظ والـ ربــ ط بين المعاني في الآيات متوخياً فـ ي عرضها وضعها في إطار من العبارات التي يصوغها مـ ن لفظه ليسهل فهمها وتتضح مقاصدها، وقد يضيف ما تدعو الضرورة إليه من سبب نزول أو قصة أو حديث ونحو ذلك.
وهذا اللون أشبه ما يكون بالترجمة المعنوية للقرآن الكريم، وهو الذي يستخدمه من يتحدث بالإذاعة والتلفاز لصلاحيته لعامة الناس ومن أمثلته (تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي) .
ثالثاً: التفسير المقارن:
وهــو بيـــان الآيات القرآنية باستعراض ما كتبه المفسرون في الآية أو مجموعة الآيات المترابطة، والموازنة بين آرائهم، وعرض استدلالاتهم، والكرّ على القول المرجوح بالنقض وبيان وجهه، وتوجيه أدلته، وبيان الراجح وحشد الأدلة وغير ذلك.
رابعاً: التفسير الموضوعي:
وهذا اللون من التفسير هو مجال بحثنا، ومدار حديثنا، ولأجله كتبت هذه الخلاصة:
أولاً: تعريفه:
يتألف مصطلح (التفسير الموضوعي) من جزأين ركبا تركيباً وصفياً فنعرف الجزأين ابتداء ثم نعرف المصطلح المركب منهما.
فالتفسير لغةً: من الفسر وهو كشف البيان، قال الراغب: "هو إظهار المعنى المعقول ".
واصطلاحاً: الكشف عن معاني القرآن الكريم..
والموضوع لغةً: مــ ن الـ وضـ ع؛ وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء أكان ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، تقول العرب: ناقة واضعة: إذا رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي، لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي أراده.
أما تعريف (التفسير الموضوعي) علماً على فن معين، فقد عرِّف عدة تعريفات نختار منها ما نظنه أجمعها وأخـ صــ ـ رهـ ا وهو: علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر..
ثانياً: نشأة التفسير الموضوعي:
لم يظهر هذا المصطلح عَلَمَاً على علم معين إلا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قُرِّرت هذه المادة ضمن مواد قسم التـ فـ سـ ير بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر، إلا أن لبنات هذا اللون من التفسير كانت موجودة مـ نــ ذ عهد النبوة وما بعده، ويمكن إجمال مظاهر وجود هذا التفسير في الأمور التالية:
1- تفسير القرآن بالقرآن: لا ريب أن تفـ سـ يـ ر الـ قـ رآن بالقرآن هو لب التفسير الموضوعي وأعلى ثمراته. وجميع الآيات التي تناولت قضية واحــ دة والجمع بين دلالاتها والتنسيق بينها كان أبرز ألوان التفسير التي كان النبي - صلى الله عـ لـ يــ ـ ـ ه وسلم- يربي أصحابه عليها.
فقد روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فسر مفاتح الغيب في قوله تـ عـ الـ ى: ((وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)) [الأنعام 59] ، فـ قــ ـ ـ ال: مفاتح الغيب خـ مـ ســ ة: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان 34].
ومن هذا القـ بـ يل ما كان يلجأ إليه الصحابة - رضوان الله عليهم- من الجـ مـ ع بين الآيات الـ قـ رآنية التي يُظنُّ بينها تعارضٌ. وقد وضع العلماء بعده قاعدة في أصول التـ فـ سير تقتضي بأن أول مــ ا يرجع إليه المفسر القرآن الكريم، إذ ما أجمل في مكان قد فصل في آخر.
وما أطــلـق فـي آيــة إلا قد قيد في أخرى، وما ورد عاماً في سورة، جاء ما يخصصه فـ ي سورة أخــ رى، وهــ ذا اللون من التفسير هو أعلى مراتب التفسير وأصدقها إذ لا أحد أعلم بكلام الله من الله.
2- آيات الأحكام:
قام الفقهاء بجمع آيات كل باب من أبواب الفقه على حدة، وأخذوا في دراستها واستنباط الأحكام منها، والجمع بين ما يظهر التعارض، وذكروا ما نص عليه ومــ ـ ـ ـ ا استنبط من القرآن بطريق الإشارة والدلالة الخفية، ونحو ذلك، وكله داخل تحت مسمى التفسير الموضوعي.
3- الأشـبـاه والنظائر:
وهو اتجاه نحاه بعض العلماء في تتبع اللفظة القرآنية، ومـ حـ اولة مـ عـ رفة دلالاتـ هــ ـ ا المختلفة، مثال ذلك: كلمة (خير) وردت في القرآن على ثمانية أوجه حـ سـ بـ ما ذكره الدامغاني في كتابه (إصلاح الوجوه والنظائر).
وهي: المال: كقوله ((إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْراً)) [البقرة 180] ، والإيمان كقوله: ((ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ)) [الأنفال 23] ، والإسلام كقوله: ((مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ)) [القلم 2] ، وبمعنى أفضل كقوله: ((وأَنتَ خَـ يْــ رُ الرَّاحِمِينَ)) [المؤمنون 109]، والعافية كقوله: ((وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُــ ـ ـ ـ وَ وإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنعام 17].
والأجر كقوله: ((لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ)) [الحج 36]، والطعام كقوله: ((فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) [القصص 24]، ، وبمعنى الظفر والغنيمة والطعن في القتال كقوله: ((ورَدَّ اللَّهُ الَذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)) [الأحزاب 25]
وهذا كما ترى لون من التفسير الموضوعي، وهو أول وسيلة يلجأ إليها الباحثون في البحث عن مـ وضــ ـ وعات القرآن حيث يجمعون ألفاظ ذلك الموضوع من سور القرآن ثم يتعرفون على دلالة اللفظ في أماكن وروده.
4- الدراسات في علوم القرآن:
اهـتــم العلماء بموضوعات علوم القرآن فأشبعوها، ومن بين هذه الموضوعات والدراسات، لون ينصبُّ على دراسة وجمع الآيات التي لها رابطة واحدة، كآيات النسخ والقسم والمشكل والجــ ـ دل والأمثال وغير ذلك، ومؤلفاتهم في ذلك يعز على الباحث حصرها وهي أشهر من أن تذكر.
كل هذه الأمور والحقائق تدلنا على أن التفـ سـ يـ ر الموضوعي ليس بدعاً من العلوم أفرزته عقول المتأخرين، وغفلت عن الاهتمام به أفـ هـ ام الأولين. لكن بروزه لوناً من التفسير له كيانه وطريقته لم يوجد إلا في العُصُر الأخيرة - تلبية لحاجات أهلها - التى وجد فيها من المذاهب والأفكار.
كما وجد فيها من الآراء والمــ وضـ وعـ ات ما اضطر علماء الشريعة إلى بحثها من وجهة النظر القرآنية ليقينهم بأنه الكتاب الــ ـ ـ ـ ذي يحوي دراسة وعلاج كل موضوع يطرأ في حياة الناس، علمه من علمه، وجهله من جهله، ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)) [الملك 14] .
ومن ثم كثرت الدراسات القرآنية، وأصبحت المكتبة القرآنية تستقبل كل يوم مواداً جديدة من عالم المطبوعات، ونظرة خاطفة إلى فهارس المكتبة تنبيك بكثرة ما كتب في هذا المجال، وإن كان في الحقيقة قليلاً على مادة القرآن. ولشدة عناية الكاتبين بهذا الفن من التفسير قام جمع من الباحثين بخدمة هذا اللون من التفسير بوضع فـ هـ رســ ـ ة للقرآن على حسب الموضوعات.
منها ما هو في عداد المخطوطات، ومنها ما طبع ككتاب المستشرق "جون لابوم " والذي عنوانه (تفصيل آيات القرآن الكريم) ، وقد ترجمه إلى الـ عـ ربـ يـ ة محمد فؤاد عبد الباقي وترجم المستدرك الذي وضعه (إدوار مونتيه) وخرجا في كتاب واحــ د، وهو خطوة أولى في طريق طويل لا بد وأن تجد مستدركاً ومعقباً كعادة ما يكتب أولاً.
ثالثاً: ألوان التفسير الموضوعي:
الأول: أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم، ثم يـ جـ مــ ع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية. وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها.
وقد أصبح كثير من الكلمات الـ قـ رآنية مصطلحات قرآنية كـ (الأمة، والجهاد، والذين في قلوبهم مرض، والخلافة.. ) ، وهذا اللون كما ترى قد اهتمت به كتب الأشباه والنظائر إلا أنها بقيت في دائرة الكلمة في موضوعها، ولكن يحاول مؤلفوها أن يربطوا بينها في مختلف السور، ممـ ا أبـ قـ ى تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية..
أما المعاصرون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط بين دلالاتها في مختلف المواطن، وأظهروا بذلك لوناً من البلاغة والإعـ جــ ـ از القرآني، وقد كان من نتائجها استنباط دلالات قرآنية بالغة الدقة، لم يكن بمـ قـ دورهم العثور عليها لولا انتهاجهم هذا السبيل.
وممــن اعتنى بهذا اللون من المـعـاصرين الدكتور أحـ مد حسن فرحات في سلسلة سماها (بحث قــ ـ رآنــ ي وضرب من التفسير الموضوعي) أصــ در منها كتاب (الذين في قلوبهم مرض) ، و(فطرة الله التي فطر الناس عليها)، و(الأمة في دلالاتها العربية والقرآنية) وغيرها..
الثاني: تحديد موضوع ما، يلحظ الباحث تعرض القرآن المجيد له بأساليب متنوعة في الـ عــ ـ ـ رض والتحليل والمناقشة والتعليق، أو تطرأ مشكلة أو تطرح قضية فيراد بحثها من وجهة نظر قرآنية وهنا نشير إلى عجيبة من عجائب القرآن الكريم المعجزة، تدلنا على أن القرآن دستور حياة، ومنهج عمل، فيه الشمول والعموم والكمال والبيان.
خلاصتها:
أنه ليس بمستغرب أن يجد باحث اهتمام القرآن صريحاً بموضوع معين فيرى جوانب مـ عـ الجــ ـ ة الموضوع ودراسته في القرآن كافية وافية، ولكن الغريب حقاً أن تقترح موضوعاً فتلج إلى عـ الــ م القرآن كأنما أنزل فيه فيدهشك أن الموضوع قد استوفيت جوانب دراسته في القرآن كأنما أنزل القرآن من أجله.
وطريقة الكتابة في هذا اللون تتم باستخراج الآيات التي تناولت الموضوع، وبعد جمعها والإحاطة بها تفسيراً وتـ أمــ لاً يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع من خلال ما بين يديه من آيات، ثم ينسق بــيـن تلــك العناصر بحيث يقسمها إلى أبواب وفصول حسب حاجة الموضوع ويقدم لذلك بمقدمة حول أسلوب القرآن في عرض أفكار الموضوع.
ويكون منطلق العرض والاستدلال والــ دراسة هو آيات القرآن الكريم لا غير، مع ربط كل ذلك بواقع الناس ومشكلاتهم، وإن ذكر شيء من غير القرآن في الموضوع فيذكر من باب الاعتضاد لا الاعتماد.
وعلى الـ بـ احـ ث أن يتجنب خلال بحـ ثـ ه التعرض للأمور الجزئية في تفسير الآيات، فلا يـ ذكــ ـ ر القراءات، ووجوه الإعراب ونـ حــ ـ ـ ـ و ذلك إلا بمقدار ما يخدم الموضوع ويتصل به اتـ صـ الاً أسـ اسياً مباشراً.
والباحث في كل ذلك يهتم بأسلوب العرض لتوضيح مرامي القرآن وأهدافه ومـ قـ اصـ ده، ليتمكن القارئ من فهم الـ مــ ـ وضـ وع وإدراك أسراره من خلال القرآن بجاذبية العرض الشائق وجودة السبك والحبك ورصانة الأسلوب ودقة التعبيرات، وبيان الإشارات بأوضح الـ عـ بارات.
وهذا اللون من التفسير الـ مـ وضوعي هو المشهور في عرف أهل الاختصاص، وحتى أن اسم (التفسير الموضوعي) لا يكاد ينصرف إلا إليه، والمتتبع لهذا يجده جلياً، وسبب ذلك يتلخص في أمرين:
ا - غزارة الموضوعات التي طرقها القرآن وأشبعها دراسة وبحثاً.
2- تجــ دد الموضوعــ ـ ات والمشكلات التي تحتاج إلى بحث من وجهة نظر قرآنية فالأولون صدروا مــ ن القرآن، والآخــ ـ رون وردوا إلى القرآن. وكلاهما بحر و لا ساحل له، لا تكاد تنتهي موضوعاته أو تقـ ف عند حد.
3- البحــ ـ ث عن موضوع من خــ ـ لال سورة من القرآن بتحديد الهدف الأساسي للسورة أو غيره من الأهداف ودراسته من خــ لال تلك السورة. وهذا اللون شبيه بسابقه إلا أن دائرته أضيق.
وطريقة البحث فيه: أن يحدد الـ بـ احث الهدف أو الأهداف الأساسية للسورة ثم يختاره أو يختار إحداها إن كانت ثمة أهداف مـ تـ عددة ثم يحاول إبراز عناصر بحث هذه السورة للموضوع وتـ قـ سـ يـ مـ هـ ا وتبويبها.
ثم يدرس عـــلاقة كل المقاطع بهذا الهدف بدءاً بمقدمة السورة، وانتهاءً بخاتمتها، مع التعرف على أسـ باب نزولها، ومكان نزولها، وترتيبها من بـيـن ســـور القرآن ويبين علاقة كل ذلك بهدف السورة عنوان البحث.
وسيجد الباحث الصلة بـيـنــه وبين الرابطة جلية عند إحالة النظر وإمعان الفكر، وسيعلم أن للسورة هدفاً واضــ حــ ـ ـ اً ترمي إلى إيضاحه وبيانه والاستدلال له وبه، وتفصيل جوانبه وأبعاده، وكل ســـورة من القرآن لها شخصية مستقلة تعلم عند البحث فيها، بل ويمكن أن يكون للسورة أهــ داف متعددة بينها من الترابط والتعاضد والتداخل شيء يصعب معه التفريق بينهما أو إفراد إحداهما بالبحث مع إغفال البواقي.
وليعلم أنه ينبغي عند البحث في هذا اللون ألا ينطلق الباحث في دراسة موضوع السورة من آيــ ات لم ترد فيها، بل يـ كــ ـ ون مـ نطـ لقه آيات ومباحث ومقاطع السورة وأما غيرها فتذكر استئناساً لا تأسيساً، وتوكيداً لا تأصيلاً، واستشهاداً لا استناداً.
وهذا اللــ ون ظفر بعناية القدماء بل جــــاءت في ثنايا تفاسيرهم الإشارات إلى بعض أهداف السورة ومحاولة الانطلاق منها لبيان تفسيرها، كالذي فعله البقاعي في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور).
وأما في العصر الحديث فقد أولع به سيد قطب في تفسيره (الظلال) حيث يقدم لكل سورة ببيان أهدافها الرئـ يـ سـ ية أو هدفها الوحيد، وينطلق في باقي تفسير السورة من خلال هذا المحور الذي تتحدث السورة عنه.
وقد أفردت بحوث كثيرة في هذا اللون من التفسير الموضوعي منها سلسلة (من مواضيع ســ ـ ـ ور القرآن) التي يكتبها الشيخ (عبد الحميد طهماز) وقد صدر منها (العواصم من الفتن في سورة الكهف) .
رابعاً: أهمية التفسير الموضوعي:
ويمكن تلخيص أجدر جوانبها في الأمور التالية:
الأول: إبراز وجوه جديدة من إعجاز القرآن الكريم، فـ كـ لـ مـ ا جَدّت على الساحة أفكار جديدة - من مُعطيات التقدم الفكري والحضاري - وجدها المفسر جلية في آيات القرآن لا لبس فيها ولا غموض بعد تتبع مواطن ذكرها في القرآن، فيسجل عندها سبق القرآن إليها، ويدلل بذلك على كونه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه ودلائل إعجازه.
الثاني: التأكيد على أهمية تفسير القرآن بالقرآن، الذي هو أعلى وأجل أنواع التفسير، إذ قد يوجد من لا يلجأ إلى القرآن عند إرادة إيضاحه وتفسيره لقصور فيه أو تقصير منه، وبالتفسير الموضوعي ندرك أهمية هذا اللون من التفسير فتزداد عنايتنا به.
وتـتـعاضــد جهودنا لبيانه، فَنُكفى بذلك الوقوف عند كثير من مشكل القرآن أو مواطن الخلاف بين علماء الأمة في تفسير آياته، لورود ما يوضح المراد ويشفي العليل ويروي الغليل بالقرآن نفسه.
الثالث: إن تجدد حاجة البشرية، وبروز أفكار جديدة على الساحة الإنسانية وانفتاح ميادين للنظريات العلمية الحديثة لا يمكن تغطيتها ولا رؤية الحلول لها إلا باللجوء إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. إذ عندما نجابه بنظرة جديدة أو علم مستحدث فإننا لا نقدر على تحديد الموقف من هذا العلم وتلك النظرية وحل المشكلة القائمة، وبيان بطلان مذهب إلا عن طريق تتبع آيات القرآن، ومحاولة استنباط ما يجب نحو كل أولئك.
إن جمع أطراف موضوع ما من خلال نصوص القرآن والسنة يمكن الباحث من القيام بدور اجـ تهــ ادي للتوصل إلى تنظير أصول لهذا الموضوع، وعلى ضوء هدايات القرآن ومقاصده نستطيع معالجة أي موضوع يَجدّ على الساحة.
الرابع: إثــراء الـ معلومات حول قضية معينة. غالباً ما يُطرح موضوع أو قضية أو فكرة أو مشكلة للبحث ويبقى أيُّ من ذلك محتاجاً إلى إشباع البحث ومزيد الدراسة، ويتم تحقيق ذلك من خلال التـ فـ سـ يــ ـ ر الـ مـ وضـ وعـ ي بحيث تتبين لذوي الشأن أدلة جديدة، ورؤى مستفيضة، وتفتيق لشيء من أبعاد القضية المطروحة.
الخامس: تأصيل الدراسات أو تصحيح مسارها:
لقد نالت بعض علوم القرآن حظاً وافــ ـ ـ ـ ـ راً من البحث والدراسة، إلا أن هناك علوماً أخر برزت جديدة تحتاج إلى تأصيل بضبط مسارها حتى يؤمن عثارها مثل (الإعجاز العلمي في القرآن) ، فـ قـ د كثر الكاتبون حوله إلا أنه بحاجة ماسة إلى ضبط قواعده لِيُتَجَنَب الإفراط فـ يــ ـ ه أو التفريط، وهذا إنما يتم عبر دراســة موضوعية لآيات القرآن وهداياته في هـ ذا المجال.
وهناك علوم ودراسات قائمة منذ القدم لكن الـ مـ ســ ـ ـ ار الذي تنتهجه يحتاج إلى تصـ حـ يح وتعديل، وإعادة تقويم كعلم التاريخ الذي أخذ منهجاً في سرد الوقائع والأحداث من غير تعرض لسنن الله في الكون والمجتمع، علماً بأن هذه السنن قد أبرزتها آيات القرآن خلال قصصه بشكل واضح.
وهناك انحرافات مبثوثة في كتب التاريخ تخالف ما نص عـ لـ يـ ه في القرآن الكريم، ولن يتم تعديلها وتقويم مثل هذه العلوم إلا بطريق استقصاء منهج القرآن في عرضها ودراستها..
مراجع هذه النبدة:
ا- مباحث في التفسير الموضوعي للدكتور مصطفى مسلم.
2- دراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر عواض الألمعي.
3- الفتوحات الربانية في التفسير الموضوعي للآيات.
4- دراسات في القرآن الكريم للدكتور محمد عبد السلام محمد.
5- دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني للدكتور أحمد جمال العمري.
الكاتب: محمد بن عبد العزيز الخضيري
المصدر: موقع طريق القرآن